وجه السلطان عبد الحميد الثاني (1293-1327هـ / 1876-1909م) اهتماماته إلى الولايات الإسلامية، وخاصة العربية منها، وذلك عشية تسنُّمه عرش الدولة، محاولاً، بذلك، تحسين أوضاع دولته السياسية والاقتصادية، وتعويض الخسائر التي واجهتها في البلقان ومصر، حتى أن المؤرخ المعروف أحمد جودة عبَّر عن ذلك قائلاً: (إن تعويض خسائر الدولة من الأراضي والإيرادات نتيجة لفقدانها أراضي واسعة في البلقان يمكن تعويضها من الأناضول والولايات العربية، وأن سوريا يمكنها، وحدها، أن تعوض خسارة موارد بعض تلك الأراضي....)[1] .
إن اهتمام السلطان عبد الحميد بالولايات العربية قد أخذ صوراً متنوعة ومختلفة، وكان - من ضمن ذلك - اهتمامه بالتعليم الذي أخذ جانباً مهمًّا في سياسة عبد الحميد نحو الولايات العربية، حتى شهد محاولات عدة لانتشاره في المناطق العربية، خصوصاً منذ عام 1307هـ/1889م وما بعده؛ فازدادت أعداد المدارس بمختلف مستوياتها وأنواعها المدنية والعسكرية، إضافة إلى الكليات المتخصصة في الطب والقانون والإدارة[2] .
ولم تشهد الأحساء بموقعها الجغرافي، آنذاك، بعد أن دخلت تحت السلطة العثمانية للمرة الثانية 1288هـ/1871م أيَّ حراك تعليمي - من قبل السلطة العثمانية فيها - إلا متأخراً، رغم أن مدحت باشا أكد في تقريره - بعد الاستيلاء على الأحساء - على ضرورة افتتاح مدارس ابتدائية في كل أحياء متصرفية الأحساء، وضرورة افتتاح مدرسة للصنائع[3] ، وأخرى للإصلاح، على أن تغطى نفقاتها من رواتب المدرسين ومصروفات البناء من حاصلات الأوقاف[4] .
إن الحديث عن التعليم في متصرفية الأحساء في العهد العثماني يقودنا – بدون شك - إلى الحديث عن التعليم وأوضاعه في الأحساء في فترة ما قبل الوجود العثماني فيها.
لقد امتاز أهالي الأحساء والقطيف وحكامهم عبر العصور التاريخية بعنايتهم الفائقة بالعلم والتعليم، فبرز منهم علماء يشار إليهم بالبنان[5] ، وكثر عدد المدارس، وكثر المترددون عليها، وازدادت – بذلك - أعداد طلبة العلم، وراج سوق العلم بمختلِف مشاربه، وأصبحت المنطقة كعبة للمتعلمين.
ولا بد أن نشير إلى أن المنطقة تتنوع فيها المدارس المذهبية، فهناك المالكية، والشافعية، والحنابلة، والأحناف، يضاف إلى ذلك الشيعة الإمامية وهم ينتمون أيضاً إلى مدارس إسلامية متعددة[6] .
وعلى أية حال فإن التعليم -طوال تلك الفترات الزمنية -كان يعتمد، أساساً، على تعليم الصبيان مبادئ القراءة والكتابة؛ لينتقلوا، بعدها، لمرحلة أعلى، إضافة إلى وجود تعليم للكبار على شكل حلقات ودروس تتضمن علوم القرآن الكريم، والحديث، والتفسير، والتوحيد، والفقه، واللغة العربية، مع تعليم يسير لعلوم الحساب دون أن يكون هناك أجهزة معينة تتولى شؤون التعليم، وتنظمه؛ فهو تعليم أهلي صرف.
إن انتشار تلك المدارس، وأعدادها، وطلابها قد أخذ جانباً بارزاً في تقارير ومذكرات المسؤولين العثمانيين خلال فترة الوجود العثماني في المنطقة؛ حيث نجد في تقرير سالنامة البصرة لعام 1311هـ يشير إلى أن هناك عشرين كُتَّاباً للصبيان في الأحساء من غير المنتظمين، وحوالي ثلاثين مدرسة أهلية يُدرَّس فيها القرآن الكريم، والتجويد، والصرف، والفقه، والفرائض، وعدد طلاب تلك المدارس يزيد على المائتين طالباً[7] .
أما كوتيه الفرنسي وكبير موظفي الديون العمومية العثمانية[8] فيذكر بأن هنالك حوالي (214) مدرسة ابتدائية أهلية يبلغ عدد طلابها حوالي 3500 طالباً[9] ، أما محمد رؤوف الشيخلي – الضابط العثماني - فإنه يشير - خلال فترة وجوده في الأحساء – إلى: (أن في الأحساء مدارس كثيرة، ولكن لا يوجد تدريس إلا في القليل منها، حتى أن الشيخ أبا بكر الملا كان يقوم بالتدريس في ثلاث أو أربع مدارس أهلية في أن واحد)[10] .
وحينما دخلت المنطقة تحت السلطة العثمانية؛ يبدو أنها تركت الأمور على حالها دون أن يكون هناك اهتمام جدِّي بالتعليم من قِبلها، رغم تأكيدات المسؤولين العثمانيين على ضرورة العناية بالتعليم - وهذا ما أشرنا إليه سابقاً - فبقيت الأمور التعليمية كما هي عليه، ولم تتخذ أي خطوات جدِّية، في هذا الصدد، إلا بعد مضي أكثرُ من عقدين من دخول البلاد في حظيرة الدولة العثمانية.
وفي حوزتنا ملف وثائقي مؤرخ في 1314هـ حصلنا عليه من الأرشيف العثماني في استانبول وهو عبارة عن مراسلات تمت بين أجهزة السلطة العثمانية في متصرفية الأحساء وأجهزة الدولة المركزية، سواء كانت في البصرة أو استانبول، وتدور حول المدرسة الوحيدة التي تم تأسيسها في قضاء الهفوف مركز المتصرفية بناءً على أمر السلطان عبد الحميد الثاني، عام 1304هـ[11] .
ولأهمية تلك المراسلات لكونها الإشارة الأولى لاهتمام الدولة العثمانية الجدي بتأسيس التعليم الحديث في الأحساء، إضافة إلى أنها تضمنت خطة الدولة التعليمية في الأحساء من حيث عدد المدارس ونوعيتها ونظام الدراسة فيها، ولعل من الجدير بنا أن نستعرض تلك المراسلات، وما ورد فيها، وما يمكن أن نستنتجه منها فيما يخص طبيعة السياسة التعليمية العثمانية في الأحساء.
أولاً - ورد في المراسلات أن الأمر السلطاني بتأسيس المدرسة كان قبل عشر سنوات، أي في عام 1304هـ، لأمر مؤسف للغاية عدم الانتهاء منها، وأن تكاليفها مع الجامع الملحق بها لا يتجاوز مبلغ ثلاثة وثمانين ألف وسبعة وسبعين قرشاً[12] ....”.
ولعله يفهم من ذلك أن جدية الدولة العثمانية في تأسيس التعليم الحديث في الأحساء لا يتناغم مع تقارير وتصريحات المسؤولين في الدولة - وعلى رأسهم السلطان - فقد بقيت حبراً على ورق، وإلا فكيف أن تأسيس مدرسة يستغرق أكثر من عشر سنوات رغم أن تكاليفها ليست بالباهظة ولا تمثل أي ثقل على خزينة الدولة التي يردها من متصرفية الأحساء من الضرائب والرسوم والمقدرة بالملايين من القروش[13] ؟
ثانياً - ورد في المراسلات أن متصرفية الأحساء أفادت بأن المدرسة الرشدية[14] التي أمر جناب السلطان ببنيانها، إذا بدأت بالنظام الجديد من التدريس، فإن الأهالي لن يرغبوا في الالتحاق بها، كما تبين ذلك من الاتصال الذي جرى مع المتصرفية.
وهنا نسأل كيف يستصدر هذا الحكم على الأهالي دون خوض التجربة التعليمية الجديدة معهم وخاصة أن أهالي المنطقة - وكما أشرنا - قد خاضوا تجارب تعليمية متنوعة؟ كما أنه يمكننا أن نستنتج من أن استصدار المسؤولين العثمانيين في الأحساء لحكمهم بعدم رغبة الأهالي بالالتحاق بالمدارس الحديثة عله يعبر عن سياسة الدولة في عدم رغبتها في انتشار المدارس في الأحساء، وهذا ما اتضح، فعلاً، بعد ذلك، ويؤكد ما نذهب إليه التقارير الرسمية السنوية لنظارة المعارف؛ ففي (سالنامة نظارت معارف عمومية)، لعام 1316هـ، عن المدارس في الأحساء - وهي لم تتعد المدرسة الواحدة طيلة فترة الوجود العثماني - إشارة إلى أن هنالك مدرسة “رشدية” في الأحساء يبلغ عدد طلابها حوالي 42 طالباً، وعدد معلميها ثلاثة وإن الغالبية العظمى من الطلاب من أبناء الموظفين الحكوميين والعسكريين والمدنيين، وكذا والكتابان السنويان لنظارة المعارف لعام في 1318هـ،1900م - 1319هـ، 1901م. يشيران إلى انخفاض في عدد الطلبة ليصبح (37) طالباً في المدرسة “الرشدية” في الهفوف، وأن عدد معلميها انخـفض ليصبح معلماً واحداً فقط[15] .
وقد استمر الوضع على ما هو عليه حيث نجد في عام 1323هـ، 1905م إشارة من قبل السيد محمد رؤوف الشيخلي المقيم في الأحساء إلى أنه - خلال مدة وجوده في الأحساء - لم يكن هناك إلا مدرسة واحدة عرفت بالعصرية، ذات أربعة فصول، وهي الوحيدة على النموذج العصري للتعليم، أنشأتها دائرة الأملاك السنِّية في داخل الكوت قرب الدروازة الشرقية، تلاميذها من أبناء الضباط والموظفين المدنيين، وقليل جدًّا من الأهالي، وللمدرسة معلم واحد من أهالي السلمانية، ومعاون له من الأهالي يدرس القرآن الكريم فقط، أما المعلم فيقوم بتدريس جميع العلوم الأخرى، ويشرف على المدرسة القائد العسكري أحمد حقي بك[16] .
كما أن تعليل المسؤولين العثمانيين - في مراسلاتهم بعدم رغبة الأهالي في إلحاق أبنائهم بتلك المدارس، وعدم انتشارها - كان بسبب نظُمها التعليمية التي لا تتفق مع عاداتهم وتقاليدهم، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهنالك أسباب عدة، ولعل أهمها:
1 - الوضع المالي المتدهور في الدولة العثمانية جعلها غير قادرة لمواجهة تكاليف التعليم، إضافة إلى ضعف الرواتب التي تدفع للمعلمين، مع عدم انتظام طريقة دفعها، ولعل الحادثة التي أشار إليها الضابط العثماني المقيم في الأحساء محمد رؤوف الشيخلي تؤكد ما ذهبنا إليه فهو يذكر: (إن المعلم من أهالي السليمانية في المدرسة العصرية في الهفوف ترك التدريس، وانزوى في محل من البلدة بسبب عدم إعطائه مرتبة، فبقيت المدرسة بدون معلم...)[17] .
وإن ما أشارت إليه المراسلات بخصوص المدرسة في الهفوف لدليل آخر على ما ذهبنا إليه حيث تشير: إلى (أنه بموجب نظام نظارة المعارف فإن الراتب المقدر للمعلم الأول ثمانمائة قرش، والراتب المقدر للمعلم الثاني ثلاثمائة قرش، والراتب الخاص بأستاذ حسن الخط مائة وثمانون قرشاً...)، وبناءً على وجهة نظر لجنة إدارة الأملاك السنية بخصوص تلك الرواتب؛ فإن (تخصيص راتب ستمائة قرش للمعلم الأول، ومائة قرش لأستاذ الخط كاف، وأنه لا حاجة لوجود المعلم الثاني...)[18] .
2 - إن الدولة العثمانية - في عهد السلطان عبدالحميد الثاني - قد فرضت ضريبة إضافية على الأهالي للتعليم بنسبة 1.2% [19] ، الأمر الذي جعل الأهالي في موقف معارض من تلك المدارس، لعدم قدرتهم على دفع تلك الضريبة المقررة.
3 - إن من ضمن أهداف الدولة العثمانية التعليمية - في مناطقها المختلفة - توفير فرص لأبناء موظفيها العسكريين والمدنيين للدراسة في مدارس الدولة الحديثة، وهذا يعني أن الأولوية تكون لهم دون أبناء الأهالي، إضافة إلى أن معظم المواد فيها تدرس باللغة العثمانية، فكان من الطبيعي عدم إقبال الأهالي على تدريس أنبائهم في تلك المدارس، ويؤكد ما ذهبنا إليه كل من شاهدي الحال كونيه والشيخلي عن ذكرهما لطلاب المدارس الرشدية في الهفوف، والقطيف وقطر، حيث يذكر كونيه أن مجموع طلاب المدارس الرشدية الثلاث في كل من الهفوف، والقطيف، وقطر، في عام 1312هـ حوالي (200) طالب، وأن الغالبية العظمى منهم من أبناء الموظفين الحكوميين العسكريين والمدنيين[20] ، وهذا الشيخلي يذكر: (إن المدرسة الرشدية - المعروفة بالعصرية في الهفوف - تلاميذها من أبناء الضباط والموظفين المدنيين، وقليل جدًّا من الأهالي...)[21] .
4 - ولعل ما يدرَّس في المدرسة “الرشدية” في سنواتها الأربع من أهم أسباب عزوف الأهالي عن إلحاق أبنائهم بتلك المدارس، حيث نجد أنه في السنة الأولى يدرس للطلاب المواد التالية: (علوم دينية، قراءات تركية، مختصر الحساب، لغة عربية)، وفي السنة الثانية تدرس المقرارات التالية: (جغرافيا، لغة فارسية، علوم دينية، حساب، لغة عربية، قواعد اللغة العثمانية، إملاء)، وفي السنة الثالثة (علوم دينية، جغرافيا، قواعد اللغة العثمانية، إملاء، اللغة الفرنسية، اللغة العربية التاريخ، حساب) أما في السنة الرابعة، فتدرس المواد: (علوم دينية، اللغة العربية، الحساب، مبادئ الهندسة، التاريخ، اللغة الفرنسية، الإنشاء، اللغة الفارسية)[22] ، وفي اعتقادنا أن ذلك العزوف قد يعود إلى أن تلك المقررات أكثرها يخضع لنظم أوربية، وتتعارض - في بعض الأحيان - مع التجربة السابقة التي كان يعيشها المجتمع الاحسائي المحافظ، والتي تختلف عما حاول العثمانيون تطبيقيه في بلادهم، إضافة إلى عدم جدية الدولة في محاولة تبسيط تلك المقررات التي لم يألفها المجتمع الأحسائي، وجلب المتخصصين من المعلمين لتدريسها، بل تجد على العكس من ذلك، وهذا ما أشارت إليه وأكدت عليه المراسلات بين أجهزة السلطة بخصوص المدرسة الرشدية في الهفوف، وفي الختام نود أن نشير هنا إلى ما لخصه هذا البحث المقتضب:
1 - إنه - وعلى الرغم من ضآلة جهود السلطة العثمانية في نشر التعليم الحديث في الأحساء، إلا أننا نعتقد أن المنطقة لم يخيم عليها الجهل والأمية، فالتعليم الأهلي بين الطوائف والمذاهب المختلفة كان نشيطاً إلى حد كبير، وفي مستويات مختلفة، ولا يبخل المقتدرون ماديًّا على دعمه، بل حتى طلب العلم خارج المنطقة، لذا نجد عدداً كبيراً من كل الطوائف برزوا في العلوم الدينية والأدبية، ومن بينهم شعراء وخطباء تركوا بعض المؤلفات في هذا الخصوص، ولعل الرجوع إلى تراجم العلماء في الفترة العثمانية التي تضمنتها كتب تراجم علماء المنطقة تؤكد ذلك، كما أن الإشارات التي ذكرها كونية والشيخلي حول عدد المدارس تؤكد ما ذهبنا إليه أيضاً.
2 - إن سياسة السلطان عبدالحميد الثاني باهتمامه بالولايات العربية لم تكن بدافع الغيرة والرغبة الأكيدة والملحة من أجل النهضة بها، وإنما من مصلحة الدولة.
3 - إن الدولة العثمانية لم تستطع تقديم إصلاحات ملموسة في ميادين الحياة المتعددة في متصرفية الأحساء، في الوقت الذي كانت الضرائب المتنوعة والمفروضة عليهم لا يتساهل فيها.
381759 | افتتاحيات | رسالة إلى القراء | مخطوطات ووثائق | أدب وشعر | ثقافة وفكر | إصدارات | تاريخ وتراث | ملف العدد | منوعات | شخصيات | تعقيبات | الأخيرة | صفحات قديمة | أخبار الواحة | هيئة التحرير |